in

قراءة نقدية لقصيدة الشاعر شاكر القزويني (كَفُّها يردُّ سَبْيَ الأرض)

فاكية صباحي

 

هذه لوحة فنية فارهة تنبه القارئ إلى كوننا ما زلنا نهمش التاريخ، ولا نعير أهمية لدروسه وعبره وتناوش المتلقي ذهنيا حتى ينثر ما غفا بطويته ويستحضر ملامح ظلم مضت عليه حقبٌ ليسقطه على هذا الظلم الذي يسود واقعنا اليوم ..والذي ما هو إلا امتداد لعدة مظالم لم تزل مخلدة بناصية التاريخ .

لقد أجاد – الأخ الكريم الأستاذ شاكر القزويني – رسم ملامح النص بلغة متميزة معمقا المعنى بمبنىً يتكئ على التكثيف ،مع إيحاءات ودلالات قوية عبّرتْ باقتدار عن الحالة المزرية التي تمر بها الأمة آنيا مرتبا أحجار النص حجرا ..فآخر رابطا بعض الظواهر التي نعيشها اليوم بغيرها من الظواهر التي ربما قد تناساها المتلقي لتلوح بذهنه كشريط عابر وتجعله يفتح صفحات التاريخ مجددا ليربط الأحداث بعضها ببعض..أو يفك خيوط مشاهد اختلطت عليه لتبدو جليا مع جلاء نوايا من كانوا متربصين بالأوطان منذ أمد بعيد .

أمّاه عودي فهذا الحُزْنُ يلتـَهـِبُ **** والارضُ ضاقت فلا دربٌ ولا أرَبُ

و يبدأ الشاعر بنداء وأي نداء هذا ..؟ فهو نداء استغاثة من الواقع المزري الذي تسربل بغيوم الماضي التي لا تزال تشوش ذهن الشاعر وتحجب عنه الرؤى .. إذ لا درب يشع منه نور الخلاص وكأنه قد أيقن مسبقا من ايصاد كل الدروب أمامه .

ونلاحظ أن شاعرنا الكريم قد استخدم البنية الصرفية استخداما فنيا ودلاليا بعث فيها روح الحياة الشعورية والعقلية معا لتستحيل إلى مبانٍ حية ناطقة بكل مقومات الجمال رغم الوجع الذي خضّب كل لفظة من نزف لفظة أخرى .. فلقد قرر الدال وصاغ مدلوله بلغة متمكنة ليرسم واقعه الموجع بلغة أقوى ، ويؤسس دلالته بفنية عالية ..لتبدو لنا الدلالة النصية – التي تمخّضت عن النص وعبر علاقات أدواته الفنية بعضها ببعض – كثمرة الفعل النسقي الذي لا وجود للنص ولا قيمة له كأثر فني إبداعي إلا به .

وهكذا تبدو لنا جليا الدلالة النصية التي أبدع فيها الشاعر شكلا ومضمونا ومن هنا ومن خلال إطلالتنا من كوة نسقية لهذه الأبيات التي بين أيدينا اذ نلاحظ أنها قد استحالت إلى أثر مشرع الأبواب والمنافذ مستدعيا التأويلات العديدة ومتقبلا كل أشكالها ليزداد بها ثراء على ثرائه المسبق .

والملاحظ أن من أهم خصائص الدال بهذا النص الانحراف الذي يعتبر مظهرا من مظاهر النصوص الشعرية القوية التي لا تتشكل ملامح فرادتها إلا به.. وما الانحراف في الأدب إلا انتهاك قوانين اللغة العادية لينتج عن ذلك تحويلها أي اللغة – من كونها انعكاسا للعالم أو تعبيرا عن بعض صوره.. أو تشكيل موقف من مواقف الحياة -إلى استقامتها بنفسها عالما آخرا، ربما بديلا عن ذلك العالم إذ تبدو (أي اللغة) في أوج مجدها وألقها الفني المائز لأن الانحراف سمة أسلوبية راقية جدا قل من ينتبه لها فهي تعكس خصوصية نص دون آخر وتـَفرُّده أمام غيره من النصوص لأن الأسلوب هو الذي يجسد هذه الصفة ليكشف روعة الشاعر وطقوسيته .. فهو سجنه ،وعزلته رغم كونه ذلك العنصر الذي يحده التعقل ،ويسيجه الاختيار الواعي للمواضيع ،ومادتها وقوالبها التي تسكب فيها كسبائك ذهبية خالدة بذهن المتلقي . أدام الله على شاعرنا الكريم فيوض آلائه.. وبورك هذا الجمال الذي أمتعتنا به رغم الوجع .. وكأن الحرف الجميل لا يولد إلا من رحم الجراح.

 

//////////////////////////////////

كَفُّها يردُّ سَبْيَ الأرض

شعر : شاكر القزويني

أمّاهُ عودي فهذا الحُزْنُ يلتـَهـِبُ        والارضُ ضاقت فلا دربٌ ولا أرَبُ

وهَدْهِديني مواويلا مُذَهـّبةً              فمهدِيَ النخلُ شدّي حين أُحْتَطَبُ

قد حطَّ جرحي فلُمّي رَكْمَ أجنِحتي     قد قطّعتْها إذا رفّتْ يدٌ عَجَبُ

خذي بخَطوي فلا ناسٌ بقافِلَتي          ولا سماءٌ ولا بابٌ ولا هَرَبُ

مُذْ كنتُ طفّا أباحوا لحمَ مِئذَنتي        وقَطَّعوني رُؤوسا كلَّما رَغِبوا

وكلّما أحرقوا نهرا على عِتَبٍ               بأضلعي يوقَدُ المسمارُ والحَطبُ

وقَيَّدوا سيفيَ المغروسَ في شَفَتي         دسّوا من السُمِّ ألوانا وما تَعِبوا

وبادَلوني أُداويهم بأورِدَتي                   ويدفعونَ عليهِ الأجْرَ ما شرِبوا

فواطمٌ حولـَها الأهوالُ رابضةٌ             وفي عَرينِ رِداها لاذَتِ السُحبُ

وتسدُلين جَناحَ الليلِ شاهِدَه              مخبّئا لوحَك المحفوظَ ما غَصَبوا

تودّعينَ شُموسا في ملامِحِهم               وفي الدموعِ يَهيلُ البَرقُ والشُهُبُ

وزينبٌ مَسَحوا بالدمعِ دمعَتَها            والصبرُ أنزلهُ وحيٌ فينسَكِبُ

وعادَ بالدمعِ يُتمُ الدهرِ في غدِها         بكربلاءَ وكان الموتُ يُرتَقـَبُ

وكان يا أمَّنا الميدانُ أضرِحةً                 وقاتلٌ كارتعاشِ السعفِ يرتَعِبُ

وطفلةٌ من أُتونِ الموتِ أرجُلُها              حجارةٌ والأُسارى كلَّما ضُرِبوا

وكانت النارُ ألوانا تشاغِلُنا                   عنِ الرؤوسِ وأخرى حينَ نـُسْتَلـَبُ

وكنتِ في مجلسٍ بالشام شاهِقةً            تجالدينَ وصوتُ اللهِ يَنتصِبُ

وحين وجهُ ترابي من ملامِحِهِ                يُنفى ويُقتَلُ، في سنجارَ يُغتَصَبُ

وقد وجدْتُكِ أمـّا لمـْلَمَتْ قَدَرا              وتحمِلينَ بيوتَ الربِّ ما صَلَبوا

تُكذّبين فَتاوى لا إلهَ لهُم                     وتُرجِعينَ عَفافَ الكُفرِ ما نَهَبوا

يا دارَ احزانِ صمتٍ ضلّ في رئتي           مَنْ ينفُثُ الريحَ في صدري فأنقلِبُ ؟

فلن تطولَ بأرضِ القهرِ أشرِعَتي            وريحُها بسماءِ الصمتِ تعتصِبُ

قد ساوَموني وكان الموتُ سيدَتي            سترا يُراوِدُ عُمري كلـَّما وَثـَبوا

وكان كلُّ مليكٍ يَجتَني أَلـَمي               يُقيمُ موكِبَ طفِّي سيفُه الخَرِبُ

بين السبايا أقمْتِ العُرسَ في ثُـكُلٍ         بلا رجالٍ وكان الشمعُ ينتَحِبُ

ولحمُنا باعَهُ النخاسُ من مَلَلٍ              أثمانُهُ من لُحومِ الشاةِ تقترِبُ

وأحكمت طوقَها فالمُشتري حَكَمٌ          تُحيطُه زُمرُ الأحلافِ والرُتـَبُ

والغانمون أعزّوا وهمَ أنفُسِنا              طوقا يُطأطئُ سَرْجَ الظَهرِ لو رَكِبوا

كلُّ العيونِ التي في الأرضِ ناطرةٌ         والسنبلاتُ وضحكُ السعفِ والقصَبُ

كلُّ الأماني بأحلامِ الصغارِ نَمَتْ            طبعُ الرياحينِ طَعْمُ الحُبِّ والتَعَبُ

اليكَ جاءتْ حفاةً في مواكِبِها              مُهَجـِّداتٌ لعلَّ الفجرَ يقتربُ

لعلَّ نورَك في آياتِ رحلتهِ                  يطوي رَحَى الغيبِ يَمحي جَوْرَ ما كتَبوا

لعلَّنا من سُباتِ الظلمِ في غَدِنا            مُطَهَّرونَ فيُمحى قُبْحُهُ اللَجِبُ

اليكَ نَسري وفي الظـَلماءِ أَطرُقُنا            بلا سَرابِ قلوبٍ وهي تقتَرِبُ

وليس إِعجازُ وحيٍ ينطوي أملا         من فاطمٍ وعليٍ كان يحتجِبُ

أني يتيمٌ فما بالكونِ من وطنٍ         الّا أبا في يَدَيهِ الأرضُ والسُحبُ

هو العذوقُ وطعمُ الماءِ في عطشي    وكبريائي وصُبحي في الدُجى يَثِبُ

حتى بُعِثْتُمْ فلُذْنا في نُبوءَتِكُمْ          فالحَشدُ في دَمِهِ كلُّ الصِفاتِ أبُ

 

الشاعرة والناقدة الفلسطينية جهاد بدران.. قراءة في .. قصيدة (الليل .. ورحلة النهر) للشاعر شاكر القزويني

    الشاعرة والقاصة والناقدة فاكية صباحي في اروقة قلوبكم