“الناقده الفنية ليندا الدّهماني“
يبدو الجسد في الفن التشكيلي المعاصر سجادة تزخر بتنوع ألوانها وخطوطها. حيث ينضح هذا الفكر بحرية مطلقة للتعبيرعما يجول في أعماقنا. كما يجسد أجسادنا على مختلف الأصعدة ويخرجنا في صورته الواقعية.
قد نتبين من خلال ما نشاهده من إنتاجات فنية للغربيين قيمة الجسد، التي تشكلت بعدة رموز توحي بقوالب شخصية ندركمن خلالها ذواتنا. وعلى سبيل المثال ايف كلاين وهو فرنسي ورائد للفن التشكيلي المعاصر. إهتم بتطوير فن الأداء، ويُنظرإليه على أنه مصدر إلهام ورائد في الحركة الفنية التقليلية. لقد قام بتحرير نفسه من الفرشاة ليعوضها بالأجساد العارية فيطلاء أزرق. كما إعتُبر تحدّ في زمن مازال لم يكن لمفهوم تحرر الجسد وجود بعد. إلّا أنّه إستبق هذا المفهوم. وليدعم نظريته فياعتبار الجسد فن. بقوله :” الفن موجود في كل مكان يصل إليه الفنان.”
ولعل مفهوم الجسد يختلف في تناوله لدى البعض الآخر من الفنانين مثل ما نراه مع هيرمان نيتش الرسام المعاصرالنمساوي، والمؤسس لحركة فينوس / viennes . و صاحب عمل “aktion 122”. حيث إختلف هو الآخر في تشكيل الجسدبصورة مألوفة. حيث جمع بين الطقوس و العناصر الليتورجية في أفعالها الدموية ذات الطبيعة الإحتفالية. ذاك عبر ما يدفعهللتكامل بين الدم و جسم الإنسان و جسم الحيوان. ربما هذه المبالغة الدموية قد تشكل صورة مثالية لأنواع التعنيفالجسماني. و على الأغلب هذا الطرح لا يشجع فقط حماة الحيوانات على إتخاذ موقف. بل يشجع اللاهوتيين و ممثليالأخلاق. و هذا يقتضي إعتبار أعمال نيتش مثيرة للجدل.
ربما نرى في تحرر الغربيين تنوع في كشف واقع الجسد ورغم الإختلاف في طابع كل من الفنانين فهم ذو هدف واحد و هوامتصاص الإلتباس الراسخ باذهان العامة نحو مفهوم الجسد و الولوج ضمن مفاهيم جديدة تصوغ حقيقة الانسان بشكلمادي و وجداني … لكن هل هذا التطور الحرّ في نشأة فكر تشكيلي جديد توقفت عند الغرب ؟. ربما إقتض بعض من فنانينالمغرب العربي و بالتحديد تونس هذه النزعة الفلسفية التشكيلية و أخرجوا من واقعهم ثراء تشكيلي يزخر بالأبعاد الفنية. لعلنانشهد على ثراء مسلك زخر بروائع فنية تشكيلية معاصرة بأيادي تونسية. فكيف كانت صياغة البعد الجسدي في الفنالمعاصر التونسي؟
أحيانا يمتد الإكتشاف الى حدود يتجاوز فيه البعد النظري و يتطرق من خلاله الى بعد روحي يتأسس عبره الإنسان كجسدتشكيلي. و ربما هذا ما يتجلى لنا مع الفنانة التشكيلية التونسية نجاة الذهبي أصيلة ولاية سيدي بوزيد من مواليد 1978 والمتحصلة على الدكتوراه في علوم التراث بكلية العلوم الإنسانية و الإجتماعية بتونس و كذلك أستاذة جامعية في العلوم والتقنيات الفنية بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. كما شاركت بعديد المعارض الوطنية و الدولية. فضلا عن ما في رصيدهاأربع معارض شخصية (معرض “مناجات” 2005 . معرض “هنّ.. ثانيًا” 2012. معرض “نظرات” 2014. معرض “دياري” 2021 ).
و لعل ما يميزها ذاك الطابع الخاص بها. تأخذ من ذاتها و جسدها لتحاكي الجسد الأنثوي في واقعيته. و تمزج مذكراتها وألوانها و خطوطها الخاصة لتقولب الفن على محك أناتها. حيث نعبر عن هذه التركيبة الفنية من خلال ما وردنا في بعضاعمالها المتنوعة و المختلفة في آن. فهي تاخذ من صورها الحقيقية لعبة تتطرّق بها إلى منافذ اليومي و تجمع معها في نفسالإطار أوراق ملئت بحروف شهدت على يومياتها و خواطرها في لحظات عاشهم مزاجها. كما تأخذ من أفكارها المتداخلة رقعةفوق لوح الجنفاص. تفرغها و من ثم تعمل على جمع شتاتها بين ازقة خطوطها و تنقر فيها عبر القص و اللصق. و في مراتاخرى تظهر و كانها بركان ينفجر و يلطخ بعض تفاصيلها بألوان مرة ثائرة و مرة ملئها الزمن برودة. لتخرج لنا في الأخير فنزخر بتقنيات تشكيلية متنوعة و روح فنية مزدهرة. و ربما في ركن آخر من نفس المجال نلتقي بالفنان التشكيلي التونسيالمعاصر محمد ثامر الماجري . من الذين ألمّوا بموضوع الجسد و أتّخذوه عبّارَة في بحر أعمالهم. حيث يعتبر الماجري أصيلولاية نابل من مواليد 1982 … والمتحصل على الماجيستر في الفنون التشكيلية في إختصاص الرّسم كما أنه أستاذ جامعيفي العلوم و التقنيات الفنية بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. إضافة الى إحرازه على مكانة فنية دولية ببعض أعماله،منها خمسة أعمال تصويريّة متفاوتة الحجم تحمل عنوان “الأراضي المتآكلة“. فضلا عن آخر أعماله عن المعرض الكبير تحتعنوان “حالات الإستثناء” من تنسيق ماتيو لوليافر ، المستشار الفني لمتحف الفن المعاصر في ليون، فرنسا. هذا المعرض،الذي إستمر من يوم 25 مارس 2021 إلى غاية 2 ماي. و قد يبدو في أعماله واقعي حيث يرتكز على الحياة و واقعيتها والحقيقة البشرية لينتهي بها الى عمل فنّي ساخر. ففكرته في طرح مفهوم الصورة الفوضوية الساخرة هو ذاته انعكاس لجملةالوضع السائد في حياتنا اليومية. زدّ على ذلك أنّه يحمل دلالة يشتغل عليها لتكوين مساحات لونية و تشكيلية متراكبة ومتداخلة الى الحد الذي يصعب علينا أحيانا كثيرة تميّيز الجزئيات المكونة للّوحة. كما نراه يحمل على عاتقه قضايا إنسانية وإجتماعية مثل الثورة التونسية و يرسمها بتقنيات مختلفة و متدرجة مع الحركة السريالية التي يأخذها في علاقة بالأشياء قصدالإحاطة الرّمزية بالبشر داخل مجتمعاتهم. كما يسلّط الضوء بإستمرار على فكرة الموت التي دائما ما تصاحب حضور الجسدكدلالة على اضمحلاله و فنائه مهما بلغ من رقيّ دنيوي .. و ربما هذا ما يدفعنا إلى الغوص في رؤيته التي تحاكي الحقيقةمن منظور الإضطهاد و العنف و كلّ ما تخفيه العيّن المجرّدة. فيقول:” يحاول العمل أن يتّطرق إلى مفاهيم مثل مفهوم السلطةو العقيدة و الدّين و العلاقات الإجتماعية و الإنسانية. بينما تلعب تِيمة الجسد المرسوم دورا مهما في تحديد علاقتنا بالواقع وبالوجود“. ويبدو الجسد على عكس ما تراه العين بل يتجاوز المادة و المساحة بحسب تصور البعد الفني التشكيلي له. و فياعتقادي بحسب هذا البناء نستخلص على أنّ الفنان التونسي قد تجاوز النظريات الأنطروبولوجية و الفينومينولوجية لنراهااليوم بشكل معاصر يقطع مع كل أشكال هذه الفلسفة و يأخذ مجرى جديد يلتهم فيه الشكل مع الاحساس و الواقعيةالمجسورة تحت عبارات فاضت لها التشكيليات. و يكون الإنسان بدوره لغز ذو رمزية فردية يغلب عليه معنى الحرية فيمفهومها اليوم.