الليل ورحلة النهر .. عنوان باذخ مليء بالمعاني العميقة.. يسحب فكرنا إلى ما وراء الحروف.. يملؤ أحداقنا خصبا من ثراء الرؤيا البعيدة..
فما مر الليل إلا وللورى التصاق بذيله.. وإلا وقد مدَّ ظلامه على عيون البشر الغارقة في عتمته .. ليل وأجنحة بشرية تحلق في دنيا السواد تتلمس العفو عن ذنب ذلك الغوص في تلك المتاهة التي لا سبيل لها..
الليل والنهر.. وكأن الليل يرقب عالم الحياة الجارية التي تتمثل بالنهر.. النهر عن التجديد والإرادة والسير دون توقف أمام مجريات الأحداث.. والنهر يستحق أن يربط به الشاعر كلمة الرحلة.. لأن جريان النهر وسيره يتعرض لصور عدة من عالم هذه الحياة وهو الشاهد على مجرى وتدفق الأحداث..
النهر نقاء وشفافية وهو صورة عكسية لسواد الليل وصفاته.. صورتين متضادتين ينطلق الشاعر منهما بفيض مداده ويغرز لنا مديات إبداعه ليروي ارواحنا المتعطشة لثمر رياض الجمال الساحر..
ومن هنا نستطيع تحديد تأويلات عدة يمكن أن تكون قد سبحت في ذهن الشاعر…
يبدأ الشاعر قصيدته بقوله:
النخلُ قَدْ وَشى للنهرِ سرَّنا
فمالت العذوقُ تستريحُ في قَرارِهِ
زَوارقٌ تُعانِقُ التَمْرَ اذا هوى
النخل.. من الأشجار المثمرة والتي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: “*وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا”*سورة مريم/25..
إن النخلة تشبه الإنسان في كونها تموت إذا قص رأسها..
من هنا يمكن أن نؤوّل قول الشاعر وربطه للنخلة بالإنسان.. واتخاذه من صفاتها صفات إنسانية .. فقول الشاعر أن النخل قد وشى للنهر سرّنا.. توظيف الأنسنة هنا إنما هي عملية تقريبية لذهن المتلقي ليعيش النص بذائقة جمالية غنية.. فالنخل الذي هو بمثابة الانسان يفشي الأسرار للنهر الجاري النقي العذب.. يحدثه بما يجري من أحداث ومخفيات الأمور..
لتصبح ثمة علاقة ما بينهما وعلى أثرها تستريح عناقيد وعذوق النخيل في مستقر النهر ليغتسل من شوائب الزمن وغبار تضاريس البشر.. فكلمة يستريح هنا.. قد وظفها الشاعر ليظهر ثقل المعاناة التي تربكه واعتتام ليله في مستقر وطنه.. ثم يقول .. زوارق تعانق التمر إذا هوى.. معانقة الزورق للتمر يدل على تفاؤل وتقديم مساعدة.. مد حبل نجاة.. الزورق هو النجاة من الغرق في مغريات الحياة ومجرياتها المختلفة.. والتمر هو صورة عن خير ورزق لهذه الأرض.. أصيل.. يستعمل الشاعر تشابيه راقية جدا مبدعة في نسجها وبنائها.. ألفاظ غاية في الجمال.. والتشابيه ما كانت الا لتقريب الصورة لذهن المتلقي وتزيينها بجمالية يتذوق عبرها نغمات وموسيقى الكلمات.. يستعمل الرمز بحروفه من واقع العراق.. يتذوقه الشاعر ليعطي للنص أبعاده الرحبة والعميقة.. ويعبر عن الفكرة التي يطرحها بشكل حسي اكثر وشاعري..
يقول الشاعر:
منْ أوَّلِ العُصور
الليلُ قامَ من دِثارِهِ المحْموم*
يبحثُ عنْ نجومٍ .. كي يُفيق
والمَحاقُ يسرقُ اللُحودَ والقلوب
كي يذوبَ في الدروب*
ما أبهى هذه الصورة التي يقدمها الشاعر وهو يفتح ذراعي قلمه بمداد ذهبي ليسجل وصفاً بليغا شاعريا.. أوصاف ذلك الليل الذي كان من عنوان قصيدته.. وهو حالة إسقاط على الواقع في بلده والأمة، خاصة لما قال .. من أول العصور.. يحاول الليل أن يزيل عن وجهه السواد لكن كثرة الأنياب التي تغرز في جسد الوطن.. أبتْ .. فجعلت الألم ينحت في جسد الليل ليحاول البحث عن صورة أفضل وخلق عالما افتراضي يغير وجه الليل بأدوات جديدة تحدث تغييرا في معالمه.. المدلهمة.. الليل يريد أن يفيق على جرائم الذين يعيثون فيه وبه، وهو يتمزق مع الجميع على كثرة الفتن والمذاهب والطوائف والفرق التي جعلت من العراق مرتعا للموت المجاني وبتخطيط متأمرك كله لصالح إسرائيل.. فيبات الليل في وجه كل ظالم معتد من حاكم وأتباع وأعداء يحوكون ظلماً للبلاد.. يقسمونها وهم يلوكون لحوم بشرها..
يتحدث الشاعر عن عملية تحريك الليل ليسلخ عن جسده ثوبه الأسود.. وكأن الليل لا يطيق الظلمة الحالكة التي تحاك به.. ليذهب بعملية البحث عن النجوم بعد أن نفض نفسه من دثاره المحموم.. والمحموم جاءت من كثرة ما اعتراه من ضنك عملية البحث والانتهاك المستمر.. كل ذلك ليصحو من براثن سواده وظلمته القاهرة.. يبحث عن النجوم التي تزين وجه السماء ليحاول تغيير معالمه لصورة أبهى في نظر البشر..
والمحاق يسرق اللحود والقلوب.. كي يذوب في الدروب.. صور جمالية بالغة التأثير في النفس بلغة قوية وتوظيف متقن لحالة الأوضاع المأساوية السارية على الأرض.. يلبس الشاعر ألفاظه بسربال من جمال والوجع يتنفسها.. ويكمل بقوله:
لَثْمةٌ مِنَ الشِفاه .. أعْتَقتْ*
هَواجِسَ الربيع*
والزحفَ على السَواتِر*
فذابَتِ الخُدودُ فوقَ تُرْبَةِ الوُعود
بالعَسَلِ الأسْمرِ في القَوارِب*
والنجومِ*
كي يُفيقَ الليلُ*
من دثارِهِ المَحْموم*
لثمة من الشفاه… وصف لمعنى الحب، وهو عروج لسماء النص، يؤكد فرضية الحب في العراق، وثباته رغم كل شيء، انعطافة لتقديم ما يمكن من صحوة وتغيير من الأعماق الناصعة بالخير والأمل والعاطفة السامية ليفيق الليل من دثاره المحموم.. هنا تكرار وعودة .. والتكرار يفيد.. في نسج الموسيقى وترسيخ الفكرة التي يتحدث عنها الشاعر وللفت نظر المتلقي وجذب انتباهه..
يريد لليل أن يفيق معترضاً على أيدي الظلام التي تعبث به… يريد أن يثور على الفتن والمهالك التي يتعرض لها العراق.. ثم يقول الشاعر..
والزَفافُ يرتدي الغُيوم
للقمر القابِعِ بالهَجير
والعَذاةُ* تُثمِرُ النَشيج
تحضُنُ الغيابَ في ثيابِ عُرْسها
فالموكِبُ الفسيحُ*
يزاولُ الرَقْصَ على الوجوه
يَنْثُرُ *
والتُرابُ هائجٌ*
بالأناملِ الرقيقةِ
الله الله ما أجمل هذه الصور من عمق الجراح.. ووصف تلك العروس العراق الأرض الطيبة التي لم يزغرد لها الشرفاء أو الأيادي البيضاء… التي لاوجود لها أصلاً.. الكل يقامر عليها على مائدة المقصلة.. الكل ينهش بها ويتغذى من خيرها.. المؤامرات عليها من كل حدب وصوب..
الزفاف يرتدي الغيوم.. يااااه.. ما أجمل هذا التعبير وهو يتراقص على عنق العراق ويشرب من أوجاعها.. الكل يزف فيها ولكنه زفاف احتضار.. لأن الحضور هم الخونة والعملاء وذوو المصالح الذاتية والمفسدون.. ولا تثمر العذاة الا النشيج والنواح حيث داستها الخطى المغموسة بالدم والدمار.. والتراب هائج بالأنامل الرقيقة.. أنامل النساء المفجوعات ببنينهن وأزواجهن وآبائهن وهن يهلن التراب على رؤوسهن، مشهد تراجيدي عراقي صرف.. أنامل لا تقوى على الصمود أمام مارد الطغيان وأذرع الظلم.. رقيقة لا تقدر الوقوف في وجه ولاة الأمر لأنهم قلة مستضعفة..
تحتاج العراق لبناء نظام جديد ومنهاج جديد وطمس نظامها القديم عن بكرة أبيه.. وبغير ذلك لن تصحو أبداً وستبقى القيان تراقصها وتراقص نظامها على الخمرة واللعب فيها حسب الأهواء والمصالح.. نظام يعيد لها كيانها المسلوب بفلسفة جديدة تخلو من المنافع وتتماشى مع كرامتها بأنظمة تلائم حضارة العراق وشعبه العظيم بكل أطيافه.. وتحافظ على تاريخها المسلوب.. فلسفة يقوم على بنائها أخصائيون في بناء المجتمعات.. لكن أين هم هؤلاء الشرفااااااااء.. أين هم؟؟؟ وهل سنبقى نبكيك يا عراق الروح والقلب..؟!!!
يكمل الشاعر خريدته الباذخة الجمال.. لا أدري كم هو مؤثر هذا الحرف.. وكم لهذا الإحساس من نبضات تجلد نفوسنا ألما على الحياة الجريحة التي ما زالت تنزف.. يقول:
والشمعِ والبَخورِ*
يُهيلُ ذكرياتِهِ*
التي خَبَرْنَها والضحكَ*
والبُكاءَ في عاشور
يُهيلُ نَعْيَ أمَّهاتِنا معَ التُرابِ
كَهَدْهَداتٍ صاخِبة ..
فوقَ مَهدِهِ الأثير
فوقَ ليلهِ الصامِتِ في اللُحود
والقِماطُ* أبيضٌ كثوبِ عُرسِهِ
كثوبِ عُرسِها الطَويل
السابِحِ في المَجهول
يوقنَّ أنَّ الصبرَ كذبةٌ
أو أنّه بكربلاء ..
في هذه اللقطة الرائعة من تشابك ألفاظ الجمال يربط الشاعر لقطات الحزن والحداد والعزاء بيوم عاشوراء.. وهو اليوم العاشر من شهر محرم في التقويم الهجري ويصادف اليوم الذي قتل فيه الحسين بن علي (ع) حفيد النبي محمد (ص) في معركة كربلاء يوم عزاء وحزن. كما وقعت العديد من الأحداث التاريخية الأخرى في نفس اليوم. وقد ربط الأرض وحزن النساء في دائرة واحدة بقوله .. يهيل نعي أمهاتنا مع التراب.. ثم يصف الصبر كونه كذب في يقين النساء التي سحقن بعظيم الفواجع والنكبات.. ومن هول وعمق الوجع … ثم يكمل..
في النُذور ..
والمَراقِدِ الذَبيحَةِ ..
إندَرَسَتْ في فكرةِ القُبور
فالنساءُ تَلبَسُ اللَيالِيَ المُحاق*
والحزنُ مُشْطُها الكَسيح*
والدفءُ يَسكُبُ العُيون
الضوءُ في ” الرَوازينِ*” خافِتٌ
ذُبالةُ العشقِ على رُفوفِها .. تَنوح*
والأطفالُ يَهرعونَ للخنادقِ
للبنادِقِ اللَئيمَة
فالقَفْرُ يَسكُنُ الدِماءَ
والإماءُ نَبْضُ حِلْمِهِمْ
في شَفا اليُتْم
والفُتوح*
والقيدُ صارمٌ*
يستعمل الشاعر ألفاظاً تدل على معالم الحزن والقهر والألم .. مثل.. النذور والذبيحة والقبور والحزن..
وما أجمل هذا التشبيه الذي ترتديه النساء تعبيراً عن شدة النزف.. حينما يقول: والنساء تلبس الليالي المحاق.. كناية عن سواد أيامهن وعزائهن وحدادهن على الشهداء والموتى.. كلمة تلبس.. تعني تغطية الجسد كله الا هنا فالتلفع بالسواد ثوبا تلبسه النساء والليالي والأيام..
والحزن مشطها الكسيح… الله الله ما أغنى هذا اللفظ وما أجمل حلته.. كناية عن التصاق الحزن فلا ينفك أبداً.. وليس له القدرة على ان يسرح خصلاتها التي شعثت من شدة القنوط.. كيف للدفء أن يفترش الأرض أو تبصره العيون .. والتدمير والانفجارات والهدم والقنابل تضج بالمكان.. الأطفال خاوية بطونهم والنساء ثكالى تبكي العراق.. والدم ما يزال ينزف في الفرات ودجلة.. والقيد ما زال صارماً لا ينفك بشيفرته التي عقدتها أمريكا والخيانة العربية.. بتوظيف داعش لنهب خيراتها وقتل أبنائها وتدميرها لسرقة النفط والتحكم بمقراته.. لتصب فيها مصلحة إسرائيل.. انهم يريدون تقسيم العراق بما يتفق مع الخطة الإسرائيلية التي تم تنظيمها قبل أكثر من ثلاثة عقود لهيمنتها في المنطقة بما يوافق مع استراتيجيتها في تمزيق العراق وبث النفوذ في المنطقة..
يقول الشاعر..
سَجاحُ* تُنْبِئُ الغارقينَ بالصلاة*
عَنْ شواطئَ .. تَغُصُّ بالرُؤوس*
سبايا .. مدنٍ منْ أوَّلِ الزمانِ والحُروف*
والخمرُ .. كؤوسُهُ النِكاح
موتٌ يَحكُمُ النعيم*
بحرٌ تَهيجُ في عُروقِهِ الدماءُ .. كالغريق
يُحاصرُ والطيورَ*
والخميلةَ العارِيَةَ الضوءِ ..
على شِفاهِ بسمَةِ الصغار
كافرةً .. فالحبُّ دينُها
والجَمالُ ثوبُها .. والنور
والله فرحةٌ
هو السكينةُ التي ..
فارقَها الخَطيبُ في المَسالِخِ
هو الأمانُ حين تَفتَحُ السماءُ صدرَها
الى الصلاة .. لتَشرَعَ القلوبُ
نَحْوَ صوتِهِ
نَحْوَ صَمْتِهِ الفَصيح
حينَ تَهرُبُ الدُروب
يوظف الشاعر مراصد التاريخ وأحداثه في لوحته الفنية الباهرة .. حين يوظف سجاح في دنيا العابدين الكاذبين وادعاء النبوة للاستيلاء على البشر ثم الأرض.. ليزداد انتشار الدجالين الذين يتخذون من الدين عزوة لنشر مصالحهم ووسيلة لتحقيق مآربهم الدنيئة تحت مسميات دينية لإخضاع البشر تحت لوائهم.. وتجد الكثير في عصرنا ما هو تحت مسميات سجاح كما وصفها الشاعر.. فنرى الحياة تغص بالرؤوس والسبايا.. الشاعر يربط الأحداث بحكمة ودراية عظيمة ويوظف التاريخ في لوحته الفنية المبدعة الخالدة لتحقيق رسالته في الدفاع عن الأرض وكشف رؤوس الخيانة والمؤامرات التي يطبخها ملوك وزعماء العرب مع الغرب والمحتل.. وهذا التوظيف إنما رسالة الشاعر السامية لنشر الوعي ولمّ الفكر الموحّد تحت حماية الشرفاء ..
وما أبهى الصور التي يصفها الشاعر عن مدن أول الزمان.. التي خلقنا ونحن نرى الخمر والقيان والرقص على جراحنا وهتك العرض والأرض وغياب الأمن والأمان من الدروب ويبقى النحيب متسع الأفق…
كثيرة هي التشابيه والرموز والصور الشعرية الجميلة التي يرتديها النص ليبرز عمق الأزمة العراقية والعربية تحت التلاعب البغيض حتى من أبناء جلدتنا..
الشاعر المبدع صاحب اللوحة الساحرة الفاتنة والموجعة.. شاكر القزويني.. لقد رسم بريشة قلمه المبدع لوحة فاقت الجمال تستحق أن تعلق على أستار الشمس.. لتأخذ مكانها من الرؤيا.. وتلهب بها العيون والقلوب.. نص غرزت فيه كاميرا الشاعر بصوره الفنية المبدعة التي تدل على براعة الشاعر وتجسيده المتقن للواقع المرير.. بلغة قوية جزلة وبتشابيه تدل على موقع الشاعر من البلاغة والفصاحة والبراعة في النسج ما سمح للآفاق أن تسبح في خيال واسع المدى بأعماق الفكر..
بورك القلم وصاحبه على هذه التحفة الفنية الرائعة.. وفقكم الله لما يحبه ويرضاه وزادكم علماً نافعاً ونوراً وخيراً كثيراً ….
الشاعرة والناقدة الفلسطينية جهاد بدران