بقلم/ محمد علي الملحة
تختلف نظرية المعرفة لدى الفلاسفة اليونان عما عليه عند المسلمين لان اليونان يعتبرون الحواس مصدر المعرفة فالذي يعرف شيئاً يحسّ به هكذا يقول السوفسطائيون) وخالفهم افلاطون(المثالي) وهو من الذين عاشوا في القرن الرابع قبل الميلاد عندما قسم المعارف الى حسية وعقلية، وجعل المعرفة العقلية اعلى درجة من الحسبة، فـ(2+2)=4 اقوى من قولك: إن الثلج ابيض. فكلا القضيتين يقينة الاّ ان واحدة منهما ذهنية. العقل قبلها، والاخرى حسية، كذلك جعل المعرفة الفلسفية اعلى مقاماً من المعارف الحسية والعقلية ويقول: اذا كان اليونان بمختلف مدارسهم قد حصروا مصادر المعرفة بالحواس والعقل، فالمسلون اضافوا مصدراً أخر هو الغيب او الوحي اوالاشراق وما شئت ان تسمي.
وما جاء في القرآن الكريم فهو جامع لذلك قال تعالى(وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون). وقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولاً) وقال تعالى: (أنا خلقنا الانسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً).
وحيث ان موضوعنا لا يحتاج الى الغور والتعمق اكثر بهكذا امور فلا حاجة للاطلالة بل نقول عن الخيام انه لم يكن ذا رأي مستقر على حال من خلال متابعتنا رباعيته فمرة يظهر بالعالم المتيقن واخرى بالجاهل المتحير، فهو يقول مثلً عن مجيئة للحياة ان مجيئي للحياة دون علمي وإرادتي اي لا مثل ما أريد (انا) وهذا ما جعلني في حيرة من امري العجيب وكذا لو عدت رغم ارادتي وعليه فالمجيء والذهاب خارج علمي ورغبتي فهو جاهل في الحقائق وهذا ما جاء على لسانه:
اتي بي لهذا الكون مضطرباً فلم
تزد لي الا حيرة وتعجب
وعدت على كره ولم ادر انني
لماذا اتيت الكون او فيم اذهب
وعن هذا العالم هو عاجز عن معرفته كما هو حال بني البشر. ويقول عنه أنه عالم واسع لا تعرف له بداية ولا تدرك له نهاية، وإن مجيئة لهذه الدنيا وخروجه منها ليس بأمره فيقول:
لا تحسبني جئت من نفسي ولا
قطعت وحدي ذا الطريق المعتا
ان يكن منه جوهري ومنشئي
فمن انا؟ كأين كنت؟ ومتى؟
وهو لا يعطي قيمة لنفسه او اهمية عند مجيئه الى الدنيا او الخروج منها الا كقطرة الى بحر و ذرة تراب تنزل الى الارض، واما من حيث فعل الحضور والغياب الا كذبابة تروح وتغدو تجاه العالم. فيقول:
كقطرة عادت الى الخضم
او كذرة قد رجعت الى الثرى
اتيت للدنيا وعدت حاكيا
ذبابة بدت وغابت اثراً
كما إنه لا يقتصر الحيرة في الحركة على نفسه فقط بل حتى ذوات غير الارواح فشأنها شأنه عندما تدور دون ارادتها، فلتعلم أيها الانسان انت كغيرك مسخر فما لك الاّ السكوت والطاعة فيقول:
إن اجرام ذا الرواق المعلى
حيرت من ذوي النهى الافكارا
احتفظ في شريط عقلك وانظر
دور هذي المدبرات حيارى
وتجده منهمكاً احياناً في اقناع الآخرين بأن لا يتعبوا انفسهم في طلب معرفة اسرار الحياة او البحث عن حل مشكلاتها فكل ما تجمع لديهم من علوم هي لا تعدو عن ظنون فقط وحين تنكشف الحقيقة لم يبق اي منا فيقول:
لا أنا ولا أنت سر ال
دهر او حل مشكلاً منه دقا
نتظنى خلف الستار فإن
زال فلا انت او انا ثم نبقى
ويشبه مجيئه الى الدنيا كوقوع الطير في شبك محكم لصياد لا يمكنه الخروج منه فما عليه اذن الا تحمل ما يفرض عليه وهو مهما تخبط في هذا القضاء المغلق لا يحقق من ارادته شيئاً فيقول:
تساقطنا كطير في شباك
نعاني من اذي الدهر اهتضاما
ونخبط في فضاء ليس يبدو
له حدود ولم نبلغ مراما
ويحكي عن مواصلته لطلب العلوم من الصغر وكيف كان فرحا بتحصيلها طرباً حتى بلغ اشده واذا حصيلة ما جمع وما ادخر لا يعد شيئا في نظره لانه رجع كما بدأ اول مرة فجعلها وصية للآخرين فيقول:
كم سرت طفلاً لتحصيل العلوم وكم
اصبحت بعد، بتدريس لها طرباً
فاسمع ختام حديثي ما بلغت سوى
اني بدئت تراباً ثم عدت صبا
نعم هو قد حصل على الكثير من العلوم واستفاد منها يوم حل بعض طلاسمها، ولكنه حين تفتحت الآفاق امامه اكثر ورأى كم هو العالم واسع وكم بحوره عميقة الغور ولا يمكن سبرها تيقن انه لا يعلم شيئاً تجاه ما موجود من اسرار الحياة فيقول:
إني وإن ذقت الغرام وقيل لي
من مبهم الاسرار ما لم يفهم
فاليوم حين فتحت عين بصيرتي
اصبحت أعلم أنني لم اعلم
والخلاصة أن ليس لعالمنا هذا بداية ظاهرة كما هوالحال في غايته وحدوده، والجهل بالمصير يكاد يكون عاماً، لان ليس هناك من احد يملك الجرأة ويقول من اين جئنا والى أية غاية نذهب اذ يقول:
ليس لذا العالم ابتداءاً
يبدو ولا غابة وحد
ولم نجد من يقول حقاً
من اين جئنا واين نغدو
ويظهر انه لم يتوصل الى نتيجة طيلة مدة اجالة الفكر مما جعله في حيرة من امره فلا عجب اذن اذا ما ذرف الدموع في ظلام الليل لانه مهما فكر مليا وزاد في تعليلاته لا زال عاجزا الى حل مرضي وهذا طبيعي بالنسبة له في عدم الوصول حين يكون الوضع كقدح مغلوب وبراد ملؤه بسائل ما فيقول:
يزداد حيرة قلبي كل داجية
والدمع حولي مثل الدر مسكوب
لا يمتلئ جام راسي من وساوسه
وليس يملأ جام وهو مقلوب
ويخاطب اهل المعرفة عن سر الحياة باعتبارهم اهل خبرة: أما الداعي الى تحمل هذه المعاناة طالما ان الدهر في جريانه هو دائماً معاكس لما تريدون؟ اذ لتتركوا العناء والهم وتبحثوا عن مجالات الراحة واللـهو لتهنئوا في اعماركم فيقول:
إذا كنت تعلم سر الدنا
ففيم وحتى مَ هذا العنا
اذا الدهر لم يجر حسب المرام