Menu
in

قراءة في رواية “القلب صيّادٌ مستوحد” (1940) للكاتبة الأميركية الرائعة كارسون ماكالرز (Carson McCullers)، بمناسبة مرور ثمانين عاماً على صدورها.

نادرة هي النصوص الأدبية التي، مثل الخمر، تزداد قيمتها كلّما عتقت. وإلى هذا النوع من النصوص تنتمي رواية “القلب صيادٌ مستوحِد” (1940) التي وضعتها الكاتبة الأميركية كارسون ماكالرز (1917 ــ 1967) في سن الثالثة والعشرين ولم يتمكن الزمن من النيل منها، بل زادها ألقاً وراهنيةً، كما يشهد على ذلك تربُّعها إلى حد اليوم داخل لائحة أفضل عشرين رواية مكتوبة بالإنجليزية في القرن العشرين، وتشكيلُها خير مرجعٍ لفهم الأحداث العنصرية الأخيرة التي هزّت أميركا في الأسابيع الأخيرة. إنجازٌ يحثّنا اليوم إلى اغتنام مناسبة مرور ثمانين عاماً على صدور هذا العمل الفذ للتوقف مليّاً عنده والتعريف بكاتبته التي ما زالت غير معروفة كما تستحق خارج وطنها، على رغم أهميتها القصوى.

كارسون ماكالرز هي النجمة الأكثر إشعاعاً داخل جيلها، شعلةُ نورٍ حملت تحت غرّتها السوداء الوجه المتمرّد لمراهقة أبدية جاهزة دوماً لدفع ثمن حرّيتها. شاعرة وروائية وكاتبة قصص، لم تمارس الكتابة سعياً خلف الشهرة والمجد، بل لبلوغ روحها. ومن هذا المنطلق بقيت متجذِّرة في ذلك الجنوب الأميركي العميق الذي، على رغم حياة تشرّدٍ، شكّل وطنها الحقيقي، أرضاً خصبة لوحيها.
من مواليد مدينة كولومبوس التي تقع في قلب ولاية جورجيا، موطن أناشيد الغوسبيل، لفتت كارسون الانتباه إليها منذ سن الطفولة بعزفها المدهش على البيانو. موهبة جعلت كل مَن أصغى إليها يتنبّأ لها بمستقبلٍ باهر في ميدان الموسيقى. لكن في نهاية سن المراهقة، اكتشفت أن مفاتيح آلةٍ كاتبة قادرة أيضاً، حين تداعبها أصابعُ ساحرةٍ، أن تُنتِج موسيقى. اكتشاف أتى مصحوباً بألمٍ شديد، إذ لا تلبث أزمة روماتيزم (داء المفاصل) أن تصعقها أثناء تحليقها وتشلّ جزئياً أطرافها. وكما لو أن ذلك لا يكفي، وبسبب مغامرة عاطفية فاشلة، تختبر الحب كخيانة وصراع مستمر ضد الشياطين التي تسكننا ولا تلبث أن تحوم داخل نصوصها: “معظم شخصياتي الروائية والقصصية كائنات ترمز إعاقتها إلى عجزها عن الحب”.
المغامرة المذكورة انطلقت في سنّ العشرين، حين تزوّجت كارسون من الجندي ريف ماكالرز. مغامرة ناريّة أفضت بعد أربع سنوات إلى الطلاق من دون أن تنطفئ شعلتها، وهو ما يفسّر زواجها مجدداً من هذا الشاب في العام 1945، بعد عودته من الحرب، واستمرار علاقتها به حتى العام 1953، حين وضع ريف حدّاً لحياته في باريس، لكن ليس قبل أن يحاول عبثاً إقناعها بالانتحار معه. مذّاك، أشعلت كارسون فتيل حياتها من طرفَيه، مثيرةً بسلوكها الفضائحي استنكار الكثيرين في أميركا المتزمّة، وبشخصيتها الفريدة وكتاباتها افتتان كبار الكتّاب، مثل تينيسي ويليامس وترومان كابوتي وبول بولز. لكن بين مشاكلها الصحية (عدة سكتات دماغية) وإدمانها على الكحول وارتمائها في أحضان نساء ضائعات مثلها في بروكلين البوهيمية، لا تلبث حياتها أن تشبه درب صليبٍ، خصوصاً حين تصبح عاجزة عن التنقل من دون كرسي نقّال، في نهاية الأربعينات، علماً أن هذا لن يمنعها من القفز بشكل ثابت بين نيويورك وباريس حتى وفاتها المبكرة عام 1967، إثر نزيف في الدماغ: “الموت هو الموت، ومع ذلك، يختبر كل واحدٍ منّا مَوْتَةً خاصة”، كتبت في أحد نصوصها.
قبل عشر سنوات من رحيلها، التقت كارسون في نيويورك بالروائية الفرنسية فرنسواز ساغان فكتبت هذه الأخيرة عنها في سيرتها الذاتية ما يلي: “امرأة مديدة القامة ونحيفة، بسحنة تائهة. كل شِعر العالم وشموسه عاجزة عن إيقاظ عينيها الزرقاوين، مقلتيها الثقيلتين وجسدها الهزيل”. من جهته، رأى الكاتب دوني دو روجمون فيها، إثر لقائه بها في بداية مسيرتها، “فتاةً تنمو بسرعة داخل جوربيها الأحمرين، بوجهٍ طويلٍ شاحبٍ يرتسم عليه جفولٌ مبلبِل”. وهذه الفتاة تحديداً هي التي نكتشفها في نصٍّ سيرذاتي قصير بعنوان “كيف بدأتُ الكتابة” تروي فيه انفعالاتها الأولى أمام الورقة البيضاء في منتصف الثلاثينات، داخل منزلها في ولاية جورجيا، حيث كان بندول الساعة يوقّع صمتَ الفصول وكتابتها نصوصها الأولى التي تراوحت بين قصص ومسرحيات.
ويجب انتظار اكتشافها نيتشه ودوستويفسكي وتشيخوف وتولستوي كي تنطلق في خطّ روايتها الأولى، “القلب صيّادٌ مستوحِد” التي لقيت نجاحاً نادراً فور صدورها وشكّلت بصفحاتها الـ 400 خير أرضية لانبثاق أعمالها اللاحقة. هكذا، بين ليلة وضحاها، أصبحت كارسون شهيرة بفضل هذا العمل الذي هزّ ضمير كلّ من قرأه واقتحم بسرعة لائحة “الروايات الأميركية الكبرى” لممارستها فيه كتابة معاكسة للتيار السائد في حقبتها، ولغمسها في حبر التمرّد ريشتها القاطعة وفضْحِها بعنفٍ وبصيرة التمييز العنصري في وطنها وأفكاراً مسبقة كثيرة كانت ــ وما تزال ــ سائدة فيه.
أحداث الرواية تدور في بلدة صغيرة غير مسمّاة تقع في الجنوب الأميركي الأكثر إقطاعية ويقطنها “إناس بطّالين وجائعين”. بلدة شديدة البؤس إذاً تتصاعد من غيتواتها السوداء أنغام موسيقى الـ “بلوز” وتشحد فيها شخصيات يائسة حصّتها من الكرامة، محمّلةً بعبءٍ من “الظلمات والأخطاء والويلات”. شخصيات تهمس كارسون بحيواتها الممزّقة بصوتٍ خافت، بينما تدور في أرضٍ بور دوّامةٌ (carrousel) من خيولٍ خشبية تشكّل استعارة للقصص التي تعجّ الرواية بها وتتمحور جميعاً حول شخصيةٍ بكماء وصمّاء ملغَّزة: جون سينجر الذي يحمل بصمتٍ أسرار شخصيات الرواية الأخرى وتقصد هذه الأخيرة غرفته المتواضعة بانتظام لسرد له مآسيها التي يبدو قادراً على تعزيمها، على رغم إعاقته. حاضرٌ أبداً لاستقبال زوّاره الكثر، نراه يساعدهم ويلطّف آلامهم من دون أي مقابل، ومن دون أن يكشف شيئاً عن نفسه. صنو شخصية “بنجي” التي ابتكرها فولكنر، لكن أكثر جاذبية وإنسانية منها، يملك “صياّد البشر” هذا القدرة على قراءة الشفاه ويفهم تماماً ما يقال له. لكن عظمته تكمن خصوصاً في قدرته على سبر أسرار القلوب وفكّها. أسرار تبقى بلا أجوبة، لكن يشكّل كشفه إياها خلاصاً لأصحابها الذين يتملّكهم الشعور معه بأن أحداً ما يفهمهم من دون أن يلقي بأي حكمٍ أخلاقي عليهم. عنه، تكتب كارسون في روايتها: “عيناه كانت توحي بأنه كان يسمع ما لم يسمعه أحد، وبأن معرفته كانت تتجاوز أكثر الأحاسيس الباطنية كشفاً”.
وحول هذه الشخصية المغناطيسية، تخطّ الكاتبة أقدار خمس شخصيات أخرى آسِرة: بيف برانون، صاحب “مقهى نيويورك”، الذي يجهد لاكتشاف هويته الجنسية الضائعة، وبسبب حنينه الشديد إلى الماضي، نراه يجمّع كل أعداد صحيفة المساء المحلّية منذ 18 عاماً؛ بينيديكت كوبلاند، الطبيب الأسوَد الذي يتعرّض لأبشع أنواع المضايقات العنصرية ويشمئزّ من سلوك أخوته السود الذين “يُصلَبون طوعاً” ويرزخون تحت عبء الخضوع؛ جايك بلاونت، الفوضوي الشرّيد والسكّير الذي يشبه نضاله القائم على توزيع منشورات في البلدة تفضح “مؤامرة” الأثرياء، حرب دون كيخوتي على طواحين الهواء؛ ميك كيلي، المراهقة النحيفة وصنو الكاتبة التي تسرّ بانفعالاتها الأولى إلى جون سينجر وتغذّي شغفاً كبيراً بالموسيقى الكلاسيكية يتبدّى لنا كوسيلة خلاصٍ نظراً إلى عجزها عن نسج أي علاقة مُرضية مع الآخرين، باستثناء الشاب هاري الذي تحلم بالسفر معه بعيداً عن بلدتهما، لكنها لا تلبث أن تحرق جناحيها بقبولها عملاً مملاً في متجر البلدة؛ وأخيراً اليوناني السمين سبيروس أنتونابولوس، الأبكم والأصمّ مثل صديقه الحميم جون سينجر، الذي تدفع ظروف موته المؤلمة سينجر على الانتحار.
“كيف نمدّ شخصية روائية بالحياة من دون حبّ، ومن دون ذلك الصراع الملازم للحب؟”، تتساءل كارسون في روايتها التي تصوّر فيها ذلك الجنوب الأميركي الفقير والعنيف في غالب الأحيان، حيث يُعلّق ذوو السحنة السمراء من أقدامهم في السجون، وتُكتَب على جدران المدن “رسائل إلى يسوع”، و”تتدفّق أناشيد الملعونين مثل سيل نهرٍ معتمٍ”، وتحلّ النعمة فجأةً حين يفبرك الأطفال العطاشى إلى الموسيقى آلات مندولين من علب السيغار وأسلاك مطاطية. وإذ نرى في معظم شخصياتها صيادين مستوحدين، فلأنها تتخبّط في عزلتها وتيهها، ولا تلقى من الآخرين سوى الإذلال والعنصرية والجور.
ومع ذلك، ثمة نورٌ هشّ يضيء بعض صفحات روايتها، خصوصاً حين تنحني الكاتبة على كتف جون سينجر لمدح “العالم الداخلي” الذي يتراءى كبوتقة خارقة يحدث فيها الاتصال الحقيقي والمشاطرة، بعيداً عن صخب العالم الخارجي وثرثرته، في صمت النفوس. وفي هذا السياق، تشكّل الرواية أيضاً نشيد احتفاء بالمعرفة ومرافعة شرسة ضد الجهل، خصوصاً عبر ما يقوله فيها الشرّيد الثائر أبداً، جايل بلاونت: “تبدو أميركا له مثل دار مجانين (…). يرى عاماً كاملاً من البطالة بينما تُهدَر مليارات الدولارات وتُترَك آلاف الكيلومترات من الأراضي على حالها. يرى الحرب على الأبواب. يرى كيف يصبح الناس شريرين وبشعين من جرّاء العذاب، وكيف يموت شيءٌ ما داخلهم. يرى خصوصاً أن النظام مبني على كذبة. ومع أن ذلك واضح مثل الصباح، إلا أن عيش الجهلة مع هذه الكذبة منذ فترة طويلة يجعلهم عاجزين عن رؤيتها”.
لكن التأملات المنيرة الأهم في الرواية تبقى، في نظرنا، تلك المرصودة لموضوع الإعاقة التي تعرف كارسون جيداً ظروفها نظراً إلى اختبارها في جسدها الآلام الملازمة لها. فمن خلال جون سينجر البصير والغامض، الذي يستحضر أيضاً في جمال شخصيته “أبله” دوستويفسكي”، تفكك بذكاء الأحكام المسبقة التي نلقيها غالباً على المعوّقين جسدياً أو عقلياً، كاشفةً قدرتهم على ردّنا إلى هشاشتنا الخاصة، وأحياناً على الذهاب أبعد من الآخرين في فهم الكائن البشري، كما لو أنهم رُسُل أتوا من ما وراءٍ، مثل بعض وسيطات الوحي في الأساطير الإغريقية.
بعد صدور “القلب صياد مستوحِد”، تقاطرت جميع دروب الأدب الأميركي نحو هذه الرواية لتشكيلها خير مرآة لما كان عليه الجنوب الأميركي قبل الحرب العالمية الثانية، أي كأراضٍ مجمَّدة في حقول القطن والرضوخ الأخلاقي. عملٌ صاعق على أكثر من صعيد استتبعته كارسون بعد أشهر قليلة برواية “انعكاسات في عينٍ ذهبية” التي تُحدِث فضيحة فور صدورها في العام 1941، بتمزيقها التابوهات المسلَّطة على المثلية. وفي العام 1946، وقّعت روايةً ثالثة بعنوان “فراكي آدامس” هي عبارة عن اعترافات مراهقة تشعر بضيقٍ في جلدها، مثل شخصية ميك كيلي في روايتها الأولى، تبعتها “نزهة المقهى الحزين” (1951)، وهي سردية هلسية حول قصة حبّ بين مديرة مقهى وقزم أحدب، و”ساعة بلا عقارب” (1961)، وهي جدارية اجتماعية تصوِّر ببصيرة نادرة العلاقات المعقّدة بين البيض والسود في ولاية جورجيا، حيث يبدو الزمن معلّقاً، مثله مثل حسّ التاريخ.
حين كانت تُسأل طفلة الأدب الأميركي الرهيبة عن مواضيعها المفضّلة، كانت تجيب دائماً: “العزلة النفسية والأخلاقية”. وعن كتابتها، صرّحت مرةً: “الكتابة مثل حلمٍ ينمو، مثل بذرةٍ تتفتّح وتزهِّر بفضل الجهد المبذول واللاوعي، وبفضل الصراع الدائر بينهما. يمكن الالتباس والسديم أن يدوما شهوراً طويلة قبل أن تنبثق فكرةٌ فجأةً وتحدث شرارات”. وباتّباعها درب هذه الشرارات المنيرة، تمكّنت كارسون من استكشاف “الأراضي المجهولة” لنفوسنا، علماً أن ذلك تطلّب منها غالباً القفز داخل الهوّات الأكثر عتمةً وإثارةً للدوّار.