وسام الرازقي
يقف الأستاذ رسلان امام مدرسته متوسطة الفارسالعربي صباحا ليستقبل طلابه متوجهاً الى صفهماسكا بيه قلم السبورة وبعض الأوراق مخطوطعليها بعض المعادلات الرياضية.
كان صخب المدرسة يسبق جرس الدرس الاوللينطلق الأستاذ (رسلان) ذو الأربعين عاماً الى صفهينادي طلابه : ” يله شباب اجريكل” بمعنى ” ادخلوا” فيبتسم بعض الطلبة الذين يفهمون بعض مفرداتاللغة التركمانية، فيتدافعون بسرعة نحو باب الصفلحضور درس الأستاذ رسلان.
اصطحبني رسلان الى بيته الذي يقع في حيشعبي بسيط في النجف، لنلتقي بزوجته واطفاله”جنا وعلي” اللذان كانا يلعبان في باب الدار،فينزع نظارته ليحضنهما، ويبدأ بتقبيلهما بحنان ابوي فياض.
تحدث رسلان عن نزوحهم من قرية بشير بكركوكفقال: ” لم يكن لدي أطفال حين بدأ نزوحنا منقريتنا قبل سقوطها بيد داعش، فبعدما سقطتالموصل بيد داعش في العاشر من حزيران عام 2014، أصبح من السهولة السيطرة على المدنوالقرى القريبة منها او التي تنشط فيها داعش“.. يضيف قائلا: ” كانت توقعاتي لسقوط قريتنا كحلالمعادلة الجبرية بشكل سريع والتوقع بنتائجها كونتنظيم داعش يستبيح دماء الجميع دون التفرقة بينمن هو سني او شيعي او تركماني او كردي،وباعتبارنا كفارا في نظرهم سبقت الاحداث وهربتبأمي وابي وزوجتي الى مكان اكثر امناً، فكانت النجف خيارنا المفضل“.
بيشير قرية زراعية تقع على بعد 27 كم إلى الجنوبالغربي من كركوك، وتتبع لناحية تازة خورماتو التي تبعد عنها 7 كيلومتر، ويمر من القرية خط سكةالحديد الذي يربط كركوك ببغداد. وكان في بيشيرعام 2010م حوالي 1400 بيت سكني وحوالي 7 مدارس و 10 مساجد وحسينيات.
وكانت قوات الجيش العراقي انسحبت بشكلمفاجئ من كركوك وخضعت القرية لسيطرة تنظيم(داعش) في 17 يونيو حزيران 2014، وبعد اقتحامداعش قرية البشير شهدت القرية جرائم مروعة منقتل وسبي ونهب وتفجير مساجد وحسينيات من قبلتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وعلى اثر ذلك نزحمعظم اهالي البشير.
يضيف رسلان راويا تلك اللحظات الصعبة : ” كانتمراحل الهروب مرعبة تتزامن مع سقوط المدن والقرىواحدة تلو الأخرى، حيث بدأت سيارات داعش تقتربمن أبواب قريتنا”، استعان رسلان بجاره ” وهو من الطائفة السنية” كما يقول، لنقلهم بسيارته التكسيالى بغداد، ناقلا عنه القول” انا سأخلصكم واعودلأجلب عائلتي فلا اطيق منظر المدينة بدونكم” ، ترك رسلان خلفه ” دارا صغيرة ودكان والدي في وسطسوق قرية بشير وكل ما نملك من اغراضنا ” .
كان تفكيره كيف يبتعد عن خطر داعش، من دون ان يحدد وجهته النهائية، يقول رسلان ” كانت لدينا عدةخيارات في طريق الهروب اما الذهاب الى بعقوبة،او طوزخرماتو حيث يتواجد اخوتي، او بغداد، ولمتكن مدينة النجف في حساباتنا”.
ويضيف قائلا ” عند وصولنا الى بغداد كانتالمعاناة في ايجارات الدور المرتفعة والمعيشة الصعبة،فنزلنا مع مئات العوائل النازحة بجامع الحيدر خانةالذي يقع وسط العاصمة بغداد بداية شارع المتنبي،المخصص لبيع الكتب، حيث انتظرنا لأيام حتى سمحلنا بالذهاب الى مخيمات على اطراف العاصمة“. ولسوء الاوضاع ” كان القرار ان نتوجه مع مئاتالعوائل الى مدينة النجف والتي سمعنا ان هناكاكثر اماناً وان المجتمع في النجف متسامح ويتمتعبحب استقبال الضيوف بسبب المراقد المقدسة فيها“.
تقع مدينة النجف 176 كم جنوب بغداد، وهي إحدىالمدن الدينية المقدسة لدى المسلمين الشيعة حيثمرقد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .وقداحتضنت النجف عشرات آلاف النازحين من مختلفمناطق العراق التي شهدت اضطرابات امنية. وتتميزبكونها مقرا للمرجعية الدينية الشيعية على مستوىالعالم الاسلامي، وتنتشر فيها العشرات من المدارسالدينية التي تعنى بالشؤون العقائدية والفقهية.
وبحسب مدير الهجرة والمهجرين في النجف جوادفاهم العبودي إن عدد النازحين من كل المحافظاتإلى النجف بلغ (86,646) الف مهجر، وكان نازحيقرية بشير وامرلي قليلين قياساً بنازحي الموصلوتلعفر حيث بلغ عددهم حوالي (6709 ) عائلة .
وعلى الرغم من تحرير قرية بشير وامرلي ومدنالعراق الاخرى من تنظيم داعش عام 2017، الا اناكثر من (2500) عائلة تركمانية فضلت البقاءوالاستيطان في مدينة النجف واندمجت بشكل كبيرمع السكان الاصليين في المحافظة.
وتبين لجنة الهجرة والمهجرين النيابية في تقاريرهادراسة حقيقية حول تعداد التركمان في العرق ،بانعددهم حوالي ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة ،أي 2% من السكان ، الذين يتوزعون في محافظاتكركوك ونينوى واربيل وديالى إلى جانب مدينة تلعفروآمرلي وطوزخورماتو وكفري والتون كوبري وداقوقوقرية بشير، إذ يعتبر التركمان القومية الثالثة فيالعراق بعد العرب والكورد.
وأوضحت زوجة رسلان الذي باتت تعمل في صناعةالكبة البيتية كمصدر للرزق بعد استقرارهم في حيالأنصار بالنجف الاشرف ” سكنا حال وصولناالنجف في حسينية على الطريق بين النجف وكربلاء،وكنا سبعة عوائل، تعدادنا خمسون فردا ، كلنا نقيمفي قاعة صغيرة ، إذ بقينا لمدة شهرين على هذاالحال قبل الانتقال الى دار استأجرناها في حيالأنصار داخل المدينة وبعد ان اكمل زوجي رسلانأوراق النقل والاستقرار كمدرس في احدى مدارسالمدينة ” .
” بادر أبناء الحي بمساعدتنا ببعض الأغراضعندما علموا باننا نازحين إذ جهزونا بأدوات المطبخوبعض الافرشة والمواد الغذائية” تضيف الزوجة في حديثها ” اضطررت للعمل بصناعة الكبة وبيعها علىربات البيوت في الحي لشراء أثاث للبيت” معربة عن تمسكها بمنطقة سكنها الجديد وجيرانها الطيبين، وانها ” لا تريد الانتقال لأي مكان أخر او حتىالعودة الى قريتنا” .
الكثير من التركمان وجدوا في النجف موطنا ملائمالهم لا سيما على الصعيد الاجتماعي وكانت ” اللغةهي العائق في السابق إلا إننا ألان نجيد التحدثبالعربية إذ يتحدث غالبية التركمان في قرية بشيروامرلي اللغة التركمانية وحدها، وهنا أصبحت اللغةالعربية دارجة الاستخدام بفضل الاندماج والتواصلبين السكان المحليين والنازحين ”، كما تقول زوجةرسلان التي ختمت بالقول” “إن عائلتي تحبالنجف، فزوجي وأطفالي الذين ولدوا في النجف يقيمون علاقات وثيقة مع الجيران وزملائهم فيالمدرسة، وقد تعلمت طبخ الأكلات النجفية الطيبة مثلالفسنجون والقيمة النجفية الاصيلة واحببنا ( دهينأبو علي) إحدى الحلويات التي تشتهر بها النجف،ونتبادل مع الجيران أطباق الطعام ومنها الكبةالموصلية على الطريقة التركمانية“.
مدير مدرسة الفارس العربي
بدوره يتحدث مدير مدرسة الفارس العربي الأستاذاحمد كاظم الذي احتضنت مدرسته عدد منالمدرسين والطلبة التركمان ، ان أبناء المنطقة ” قدمواالمساعدة لاخوانهم النازحين وعوائلهم والتي تعتبرديدن البيوت النجفية التي اعتادت على استقبالزوار العتبات المقدسة في المحافظة.
واسترسل مدير المدرسة “سبق وان كانت لي معرفةببعض التركمانين في الكلية ببغداد قبل ان تنكبمدنهم على يد الارهاب “.
ويضيف “مع موجة النزوح الاولى توجهت الىالحسينيات والجوامع في طريق النجف كربلاءشمالي مدينة النجف لاستقبال العوائل الوافدةخصوصا ان اغلب السكان النازحين في حالة يرثىلها من عدم وجود الغذاء والماء والمستلزماتالضرورية للمبيت”. ويقول احمد انه قام بكفالة اكثرمن كفالة 12 عائلة بضمنهم عائلة رسلان.
رسلان مدرس الرياضيات المشهور
بعد استقرار رسلان وعائلته في مدينة النجفالاشرف واتمام أوراق نقله الى ملاك مديرية التربيةفيها، استطاع كسب ود الطلبة بأسلوبه الشيقوطريقة تدريسه المطعمة بالكلمات التركمانية، حيثاصبح من المدرسين المميزين بعد تحقيق نتائج جيدةفي امتحانات البكلوريا للصف الثالث المتوسط.
يقول رسلان: “ تمكنت من اثبات وجودي بينالمدرسين المميزين في المحافظة، وبدأت المدارسالاهلية تفاتحني بالتدريس فيها، وهنا فتحت اماميأبواب جديدة وأصبحت علاقاتي بالطلبة قوية جدا، وبدأوا يطالبوني بفتح دروس تقوية بسبب اسلوبيالمبسط في طرح المادة، وكانت شهرتي بينهم رسلانالكردي“. وبين رسلان بأن ” المعاملة والود الذيوجده في سكنه الجديد ومدينة النجف قررت عدمالعودة الى قرية بيشير رغم عودة الأوضاع فيهاالى سابق عهدها“.
حالة حب يتبعها زواج
وعند خروجنا من باب دار رسلان، صادفنا شابنجفي جاء ليدعو رسلان بالحضور الى مجلس قرانهعلى احدى الفتيات من العوائل التركمانية النازحة،وهنا بدأ فائز ( 30 عاما) وهو صاحب أسواق فيحي الأنصار يروي لنا ” قصة الحب التي ربطته بالفتاة عندما كانت تتردد الى محله، مما دفعهلاختيارها كشريكة لحياته دون الاكتراث الى كونهامن غير قومية“ معتبراً ان ” الزواج هو توافق بينشخصين لا يستند الى القوميات المختلفة“.
النجف مدينة التعايش
وعن طبيعة العلاقات واستقرار النازحين يقولالباحث في شؤون النزاعات المحلية في جامعةالكوفة الدكتور قاسم الزاملي ” إن النازحينالتركمان مواطنين عراقيين ولم يغيروا من واقع المدينةامنياً او اجتماعياً على الرغم من إعدادهم الكبيرةفهم يؤمنون بالسلم المجتمعي وأبناء النجف احبوهمكثيرا لاحترامهم لعادات وتقاليد المحافظة لذلك كانتمحافظة النجف مثالا للتعايش السلمي واندماجه معمجتمعات مختلفة عنه قومياً ولغوياً وحتى عقائديا” .
وانخرط معظم التركمان الوافدين في سوق العملوالوظائف دون اي عوائق، سيما انهم اكتسبوا مودةوتعاطف المجتمع النجفي ، كما هو الحال مع رسلانالذي اصبح من اشهر مدرسي الرياضيات فيمحافظة النجف.