
بقلم/ الباحث جواد ابو غنيم
ولدت المدن في العالم الاسلامي، كسواها من المدن، في مناطق العالم الاخرى، نتيجة لاجتماع عدد من السكان على شكل جماعة بشريه متعايشه في بقعة معينه من الارض لسبب او اكثر كالخصائص الطبيعية(مياه، مناخ…) او الاقتصاديه او السياسيه او العسكريه الاستراتيجيه ثم اتسعت تدريجيا الى هذا الحد او ذاك حسب الظروف المؤاتيه او الفترات التاريخيه، وهذا الامر ينطبق على المدن التي وجدت قبل الاسلام او تلك التي تأسست بعده، سواء بسبب الفتوحات الاسلامية او لاسباب لاحقه غيرها.
وجاءت العوامل الحضاريه والروحيه الخاصة بالعالم الاسلامي التي سطع نورها من بيت الله الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف في المدينة المنوره الى جانب هذه العوامل المشتركه وتأثيرها في الواقع، لتطبع المدينة الاسلامية بسماتها المميزه، ثم لعبت في اطارها عوامل اخرى لاسيما الاثنيه والثقافيه الموروثه ونمط المعيشه واستعمال مواد البناء المحليه ادوارا متفاوته في خلق معالم متباينه الى هذا الحد او ذاك داخل المدينه الاسلاميه التي تظل في طابعها العام سمه عمرانيه واحده، الا ان ذلك لا يلغي وجود عوامل وقيم اثرت في شكل المدينه الاسلاميه كالتحسس والتذوق الجمالي للفن والعماره.
وقد تبدو المدن الاسلاميه اجمالا وللوهله الاولى متماثله الملامح في ابرز خصائصها العمرانيه والمتحوره حول السمات الروحيه الخاصة بالاسلام كدّين وعقيده من جهة وكنظام اجتماعي- حياتي من جهة اخرى، فقد فرض وبلور من جانبه قوانينه التي تركت اثارها في بنية المجتمع لملائمة احكامه الشرعيه.
وهذه الحال تعكسها اوجه التشابه الملموسه في الخصائص الحياتيه الرئيسيه لسكان المدن الاسلامية اجمالا، رغم الفوارق النسبيه النابعه من تأثيرات موضوعيه مصدرها اما الانتماء الاثني للغالبيه الساحقه(عرب، افارقه، ترك، اكراد، بربر،… الخ) او الانتماء الجغرافي(صحراوي، مرتفعات…) او المناخي او غير ذلك، اما من حيث المنشئ في الاصل، فقد تطرق الكثير من الباحثين في دراساتهم الى الجوانب البنيويه والعمرانيه للمدينه الاسلامية امثال لويس ماسنيون ووليم مارسيه وىدموندبوتي وهنري بيرين والمستشرق الانكليزي ستيرن وغيرهم الكثير وذلك بتصنيف نشأة المدن الاسلامية الى صنفين متميزين جوهرياً هما:-
1- الحواضر القديمه:
يشمل هذا الصنف المدن التي كانت موجوده اصلا قبل ظهور الاسلام ثم فتحها المسلمون ونشروا الاسلام فيها بعد ان استقروا فيها مانحين اياها طابعا اسلاميا محضاً، الى درجة بدت معه كما لو انها ولدت من جديد كمدن اسلاميه لا يربطها اي رابط حضاري او روحي بتاريخها السابق عن الاسلام، على الرغم ان بعضها او بالاحرى اغلبها من المدن المعروفة سابقا كمدن وعواصم الامبراطوريات السابقه على الفتح الاسلامي، وانها تمتعت بمكانه تمدنيه مرموقه اثناء الفترات السابقه كاليونانيه والرومانيه كما هو الامر بالنسبه لدمشق وحلب في سوريا، والاسكندريه في مصر، واسطنبول في تركيا، ولكن ظلت مبادئ التخطيط العمراني القديم لهذه المدن ولقرون عديده هي الملامح البارزه التي ظهرت من خلال نمط الشوارع المتعامده، والمسارح والحمامات والملاعب…الخ.
2- الامصار:-
ويشمل هذا الصنف حصرا المدن التي اسسها المسلمون بعد الفتوحات الاسلامية او نتيجة لها، او بسبب استقرار الدول الاسلاميه وتوسعها، فهذه المدن ولدت اسلاميه منذ الاصل وتطورت بشكل منسجم كلياً مع الحياة الروحية والسياسية التي بشر بها الدين الاسلامي وكانت لقرون عديده من مراكز الحضاره العالمية والى هذا الصنف تنتمي مدن من بينها البصره والكوفه وبغداد والقاهره والقيروان والاندلس وغيرها من المدن الاسلاميه المعروفه.
ويجمع الباحثون الذين تناولوا بدراسات كثيره ومتعدده عمران المدينه الاسلامية الجديده هذه والتي كان للاسلام الدور الحاسم في ظهورها وتطورها العمراني، على ان انشاؤها عبر جمله خطوات تبدأ بأختيار الموقع المخصص للجامع اي مركز العباده وهو موقع يشكل قلب المدينه او المحور الذي تتجه له جميع مخارج ومداخل المدينه، وتلي الجامع الاقسام العمرانيه الاخرى، كالمرافق الحكومية والاسواق ثم البيوت السكنيه كما يعتبرون مكه المكرمه والمدينه المنوره النماذج الاولى للمدن الاسلاميه التي اختصت بهذا التخطيط العمراني الاسلامي الخاص.
مدن الاضرحه:-
بيد ان هناك صنفا ثالثا من المدن الاسلاميه الكبيره والمهمه لا ينتمي الى اي من الصنفين المذكورين اطلاقا، الا ان خصوصيته لم تنل الانتباه والاهتمام اللازم من قبل الباحثين المذكورين سابقا، وهو الصنف الذي نسميه(مدن الاضرحه) فهذا الصنف من المدن لم يكن موجودا قبل الاسلام، ولم يولد نتيجة لمتطلبات عسكريه او للتطور الاقتصادي او الازدهار السكاني، انما-وهنا تكمن خصوصيته الجوهريه- يتعلق الامر بمدن نشأت لسبب مغاير كلياً، وهو تحديداً وجود الاضرحه التي تتمثل في جوامع ومقامات ومراقد اهل البيت(ع)، فبفعل وجود هذه الاضرحه راحت هذه المدن تنمو تدريجيا ومن دون تدخل من سلطه او اراده عسكريه او سياسيه او اقتصاديه، لتتحول من نوى لمزارات دينيه الى مدن ضخمه، سرعان ما وجدت نفسها تلعب دورا حضاريا بارزاً ومتزايدا مع مرور العصور الاسلامية اللاحقه، وهذا الدور لم يقتصر في تأثيره، على الافقين الموضعي او المحلي وانما راح وبشكل واضح يؤثر اقليميا وعالميا وخصوصا في العالم الاسلامي بعد ان ذاع صيت هذه المدن لاهميتها الروحيه والدينيه والثقافيه والعمرانيه، كما انها اصبحت مسرحاً يقصده المسلمون من شتى انحاء المعموره لاقامة الشعائر والطقوس الدينيه في مناسبات معينه او من دونها لزيارة اضرحتها والتعرف على معالمها وخصوصا بعد اداء مراسم الحج في مكه المكرمه والمدينه المنوره او قبل ذلك.
ويتركز في العراق عدد من المدن المقدسه وهي النجف الاشرف وكربلاء المقدسه والكاظميه وسامراء والتي تتمتع بمكانه مرموقه وتحظى باهتمام كبير من لدن العراقيين اضافة الى شأنها الديني البحت الذي يخص المسلمين عموما في مختلف مناطق العالم وعلى اختلاف اجناسهم.
اما في ايران فتركزت مدينتا مشهد وقم المقدستان اللتان تعدان من المدن الدينيه المقدسه في العالم الاسلامي وكذا الحال في دمشق.
ولاشك في ان هناك عوامل اخرى اسهمت الى جانب العامل الديني في تطوير هذه المدن وايصالها الى ما وصلت اليه من شهرة ومكانه رفيعه، لكن كل تلك العوامل تعتبر ثانويه وطارئه في كل الاحوال اذا ما قورنت بالعامل الديني، الذي يظل في كل الاحوال السبب الاول والرئيسي في نشأتها الاولى وتطورها الى حواضر كبيره، ويظل هذا العامل المحرك الفعلي في استمرار ازدهارها وتطورها مستقبلاً.


