in

سوق الصفارين في النجف ..ذاكرة أمكنة ومحطة ابداع حرفي

تحقيق:علي عباس عبد الحسين

لا أذكر تأريخ اول مرة زرت بها هذا السوق.. عالم غريب..
ضجيج يطرب له الجميع.. ألوان براقة بلون الذهب انامل نحيلة تشابكت فيها العروق كتشابك الجذور.. عالم ساحر سخر الجميع وشدهم اليه بأواصر قوية.. عالم جميل عالم النحاسين..
إنهم يحفرون الابداع.

في هذا السوق كانت محطتي التي توقفت بها كثيراً بها طويلاً.. (سوق النحاسين) أو (سوق الصفافير) كما يحلو لأهل النجف ان يسمونه.. قلتُ لا أذكر التاريخ الذي دخلت به السوق لاول مرة. كنت حينها صغيراً.
ولكني اذكر بوضوح يومها عدت للبيت وقد سحرني عالمي المجهول الذي اكتشفته لاول مرة ومزحت به مثلما مزح (كريستوف كولومبوس) باكتشافه لاول مرة.. كنت مبهوراً اسرعت الى المطرقة و القلم والحديد واخرجت كل الاواني من المطبخ وبدأت اقلد ما رأيته في سوق (الصفافير).
ولكن النتيجة جاءت كما يقولون”تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن”. فقد الحقت الضرر بكل الاواني دون الحصول على ما اريد تلك الحكاية تراكم عليها غبار الزمن. وقد طويتها في عالم النسيان واسكن لا أدري لماذا اعدت تركيبها وتفاصيلها الدقيقة ربما لانني استهوتني الكتابة عن اسواق النجف ومهنها. لقد عدت الى ذاكرتي تركيبة كل تلك الصور القديمة عن السوق وأنا اجتاز ممره الضيق الذي امتد امامي كأفعى تتلوى بصمت وربما لاني ازور السوق بعد غيبة طويلة.
لقد صار السوق فيما بعد ملاذي الذي الجأ اليه بين الحين والآخر، ورغم الضجيج ومطارق الصفارين كنت أشعر بمتعة غريبة. ربما لاني اصبحت اسيراً لهذا الابداع الفطري. قال صاحبي الذي رافقني لزيارة يبدو إنك مغرم بالسوق.. لم انتبه الى ما قاله صاحبي ولكنني انتبهت فيما بعد.. واصلت السفر عبر الاواني النحاسية والفولكلورية التي كانت تشكل بمجموعها لوحة فنية رائعة، وواصلت الابجار من جديد عبر هذه المحلات التي تآكلت جدرانها فيما تمخضت عن نتاجات فنية رائعة من حيث الطراز والدقة والنقوش والمصنوعات وظلت اصيلة رغم تراكم الايام والسنين..
لم يفنى السوق كما يعتقد البعض. بل ظل قائماً رغم التحديات وظلت الاصابع النحيلة التي اسودت اطرافها تحفر على النحاس صورة الحياة وتؤثث الابداع.. ومثلما صار السوق ملاذي. صار قبلة فولكلورية شعبية لابد ان يزوره اي قادم حط رحاله في مدينة النجف الاشرف.. تساءلت الى اين تمتد جذور السوق؟
أحدهم قال لي: جذور هذا السوق تمتد بعيداً في رحم الزمن. فقد عرف اهل النجف هذه الصنعة او الحرفة ونمى تداولها جيلاً بعد جيل.. وهؤلاء فنانون اضافة الى امتهانهم الطرق على النحاس او تطويعه. فقد جسدوا بالفطرة عشرات الاعمال الجميلة ووثقوا التراث والفولكلور الشعبي.
ولكن.. قالها صاحبي وصمت طويلاً. ثم داعب حبات مسبحته. ثم قال وبحسرة: بدأ يفقد طابعه الخاص واخشى ان يخفت فيه صوت المطارق يوماً ما. اذا لم تعمد المحلات ولا الصافين امام اغراء المحلات التجارية وزحفها المتواصل. فقد تحولت العديد من محلات الصفارين الى مكان لبيع مواد مختلفة لا تتلائم وطابع هذا المكان.. تملكتني الدهشة وان استمع لهذا الكلام الذي كان وقعه في نفسي كوقع ضربات ملاكم متمرس وتساءلت: كيف نسمح بتلاشي السوق والقضاء على أعرق صناعة فولكلورية شعبية..
ونحن نتأمل المحلات التي تناثرت بعفوية على خارطة السوق.. تسآئلت: هل هناك اسواق غربية مشابهة لهذا السوق؟
رد صاحبي الذي توفرت له فرصة الاطلاع والسياحة لاكثر من بلد عربي. نعم هناك مثلاً سوق(مولاي ادريس) في مدينة فاس وهو أقدم الاسواق وأوسعها وقد سمّي بهذا الاسم لوجود ضريح (ادريس الاصغر) الابن الوحيد لادريس الاكبر مؤسس الدولة العلوية في المغرب. والواقع إن هذا السوق عبارة عن مجمع لعدة اسواق وله طابع شرقي حيث ضم اسواقاً وهو بتركيبة قريبة الشبه بالسوق الكبير وقيصرياته وتفرعاته ومنها سوق الصفارين. استغاثة
تربعت الشمس في كبد السماء. وعكست اشعتها الذهبية المتسربة من بين الشقوق ووهج النحاس الاصفر الذي ازداد تألقاً من جديد. حاولت قراءة تاريخ السوق والسفر عبر صفحاته. فكانت لي أحاديث مع بعض من التقيتهم في سوق الصفارين . قال لي أحدهم: نحن بدأنا العمل في هذا السوق قبل أكثر من ثمانين سنة وتوارثنا المهنة من أجدادنا، وتفننت انملنا في صنع ونقش العديد من التحف والاواني الجميلة التي يتلاقها السواح الوافدين الى المدينة وابناء النجف كذلك، واضاف : إن السوق يمثل قيمة تراثية وفولوكلورية شعبية الا انه تعرض للاهمال وخاصة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وبدأت تنقرض بعض المحلات المتخصصة منه.
أما الآخر فقد اشار الى ان السوق مرفق تراثي وحضاري ولكنه سيختفي اذا لم تسارع الجهات المسؤولة الى انقاذه من التلاشي والاندثار.. قلت له.. هل هي صرخة استغاثة تطلقها من داخل السوق؟
قال نعم. لتبادر كل الجهات الى انقاذ السوق من الضياع وخاصة المسؤولين في محافظة النجف الاشرف وكل المهتمين بالحفاظ على تراث المدينة واصالتها.
إنقاذ السوق الكبير من الضياع كلمة رددها اكثر من شخص التقيته من اصحاب المهن او المارين.. تحركت بسرعة الى محل الصفارين الذين افتشروا مدخل محلاتهم لتحيط بهم المطارق والادوات الاخرى من كل صوب.. هذه المرة لم يكن حديثي معهم عن جذور السوق والى اين تمتد. بل كيف نحافظ على السوق ونُبقيه صرحاً فولوكلورياً تراثياً؟
وماذا نفعل كي تعمر محلات الصفارين امام المهن الاخرى التي زحفت صوبه؟ وهل سيعود السوق الى سابق عهده بهمة الخيرين؟.. الجميع ومع الألم الذي اعتصر دواخلهم كانت صورة الامل والاحرار ترتسم على محيّاهم وهم يبحثون عن إجابات لما طرحناه من تساؤلات ولتكن صرخات الاستغاثة التي سمعناها محور الموضوع بدلاً من ان نصف السوق او نستعرض تأريخ انشائه ويبقى سوق الصفارين في النجف تاريخ من الابداع الحرفي ومَعْلَم من معالم المدينة الحضارية الاصلية في الحرف والصناعات الشعبية.

العودة الى مملكة الجن

الشاعر عمر الخيام ونظريته في المعرفة